الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: التحرير والتنوير المسمى بـ «تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد»***
{فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا (88)} تفريع عن أخبار المنافقين التي تقدّمت، لأنّ ما وصف من أحوالهم لا يترك شكاً عند المؤمنين في حيث طويتهم وكفرهم، أو هو تفريع عن قوله: {ومن أصدق من الله حديثاً} [النساء: 87]. وإذ قد حدّث الله عنهم بما وصف من سابق الآي، فلا يحقّ التردّد في سوء نواياهم وكفرهم، فموقع الفاء هنا نظير موقع الفاء في قوله: {فقاتل في سبيل الله} في سورة النساء (84). والاستفهام للتعجيب واللَّوم. والتعريف في {المنافقين} للعهد، و{فئتين} حال من الضمير المجرور باللام فهي قيد لعامله، الذي هو التوبيخ، فعلم أنّ محلّ التوبيخ هو الانقسام: {في المنافقين} متعلّق بفئتين لتأويله بمعنى «منقسمين»، ومعناه: في شأن المنافقين، لأنّ الحكم لا يتعلّق بذوات المنافقين. والفئة: الطائفة. وزنها فِلَة، مشتقّة من الفيء وهو الرجوع، لأنّهم يَرجع بعضهم إلى بعض في شؤونهم. وأصلها فَيّءٌ، فحذفوا الياء من وسطه لكثرة الاستعمال وعوّضوا عنها الهاء. وقد علم أنّ الانقسام إلى فئتين ما هو إلاّ انقسام في حالة من حالتين، والمقام للكلام في الإيمان والكفر، أي فما لكم بين مكفّر لهم ومبرّر، وفي إجراء أحكام الإيمان أو الكفر عليهم. قيل: نزلت هذه الآية في المنخزلين يوم أُحد: عبد الله بن أبَيّ وأتباعه، اختلف المسلمون في وصفهم بالإيمان أو الكفر بسبب فعلتهم تلك. وفي «صحيح البخاري» عن زيد بن ثابت قال: رجع ناس من أصحاب النبي من أُحد، وكان الناس فيهم فريقين، فريق يقول: اقُتُلْهم، وفريق يقول: لا، فنزلت «فما لكم في المنافقين فئتين»، وقال: «إنّها طَيْبَة تنفي الخبث كما تنفي النار خبث الفضّة» أي ولَمْ يقتلهم النبي صلى الله عليه وسلم جرياً على ظاهر حالهم من إظهار الإسلام. فتكون الآية لبيان أنّه ما كان ينبغي التردّد في أمرهم. وعن مجاهد: أنها نزلت في قوم من أهل مكة أظهروا الإيمان، وهاجروا إلى المدينة، ثمّ استأذنوا في الرجوع إلى مكة، ليأتوا ببضاعة يتّجرون فيها، وزعموا أنّهم لم يزالوا مؤمنين، فاختلف المسلمون في شأنهم: أهم مشركون أم مسلمون. ويبيّنه ما روي عن ابن عباس أنّها نزلت في قوم كانوا من أهل مكة يبطنون الشرك ويظهرون الإسلام للمسلمين، ليكونوا في أمن من تعرّض المسلمين لهم بحرب في خروجهم في تجارات أو نحوها، وأنّه قد بلغ المسلمين أنّهم خرجوا من مكة في تجارة، فقال فريق من المسلمين: نركب إليهم فنقاتلهم، وقال فريق: كيف نقتلهم وقد نطقوا بالإسلام، فاختلف المسلمون في ذلك، ولم يغيّر رسول الله على أحد من الفريقين حتّى نزلت الآية. وعن الضّحاك: نزلت في قوم أظهروا الإسلام بمكة ولم يهاجروا، وكانوا يظاهرون المشركين على المسلمين، وهم الذين قال الله تعالى فيهم: {إنّ الذين توفّاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم} [النساء: 97] الآية. وأحسب أنّ هؤلاء الفرق كلّهم كانوا معروفين وقت نزول الآية، فكانوا مثَلاً لعمومها وهي عامّة فيهم وفي غيرهم من كلّ من عرف بالنفاق يومئذٍ من أهل المدينة ومن أهل مكة. والظاهر أنّ الآية نزلت بعد أن فات وقت قتالهم، لقصد عدم التعرّض لهم وقت خروجهم استدراجاً لهم إلى يوم فتح مكة. وعلى جميع الاحتمالات فموقع الملام هو الخطأ في الاجتهاد لضعف دليل المُخطِئين لأنّ دلائل كفر المتحدّث عنهم كانت ترجح على دليل إسلامهم الذي هو مجرّد النطق بكلمة الإسلام، مع التجرّد عن إظهار موالاة المسلمين. وهذه الآية دليل على أنّ المجتهد إذا استند إلى دليل ضعيف ما كان من شأنه أن يستدلّ به العالِم لا يكون بعيداً عن الملام في الدنيا على أن أخطأ فيما لا يخطئ أهلُ العلم في مثله. وجملة {والله أرْكَسَهم بما كسبوا} حالية، أي إن كنتم اختلفتم فيهم فالله قد ردّهم إلى حالهم السوأى، لأنّ معنى أركس رَدّ إلى الرّكْس، والركس قريب من الرجس. وفي حديث الصحيح في الروث «إنّ هذا رِكْسٌ» وقيل: معنى أركس نكس، أي ردّ ردّاً شنيعاً، وهو مقارب للأول. وقد جعل الله ردّهم إلى الكفر جزاء لسوء اعتقادهم وقلّة إخلاصهم مع رسوله صلى الله عليه وسلم فإنّ الأعمال تتوالد من جنسها، فالعمل الصالح يأتي بزيادة الصالحات، والعمل السيّيء يأتي بمنتهى المعاصي، ولهذا تكرّر في القرآن الإخبار عن كون العمل سبباً في بلوغ الغايات من جنسه. وقوله: {أتريدون أن تهدوا من أضلّ الله} استئناف بياني نشأ عن اللوم والتعجيب الذي في قوله: {فما لكم في المنافقين فئتين}، لأنّ السامعين يترقّبون بيان وجه اللوم، ويتساءلون عمّاذا يتُخذون نحو هؤلاء المنافقين. وقد دلّ الاستفهام الإنكاري المشوب باللوم على جملة محذوفة هي محلّ الاستئناف البياني، وتقديرها: إنهم قد أضلّهم الله، أتريدون أن تهدوا من أضلّ الله، بناء على أنّ قوله: {والله أركسهم} ليس المراد منه أنَّه أضلّهم، بل المراد منه أساءَ حالهم، وسوءُ الحال أمر مجمل يفتقر إلى البيان، فيكون فَصْل الجملة فصل الاستئناف. وإن جعلتَ معنى {والله أركسهم} أنّه ردّهم إلى الكفر، كانت جملة {أتريدون} استئنافاً ابتدائياً، ووجه الفصل أنّه إقبال على اللوم والإنكار، بعد جملة {والله أركسهم} التي هي خبرية، فالفصل لكمال الانقطاع لاختلاف الغرضين.
{وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (89)} الأظهر أنّ ضمير «ودوّا» عائد إلى المنافقين في قوله: {فمالكم في المنافقين فئتين} [النساء: 88]. فضح الله هذا الفريق فأعلَم المسلمين بأنّهم مضمرون الكفر، وأنّهم يحاولون رَدّ من يستطيعون ردّه من المسلمين إلى الكفر. وعليه فقوله: {فلا تتخذوا منهم أولياء حتى يهاجروا في سبيل الله} إن حمل على ظاهر المهاجرة لا يناسب إلاّ ما تقدّم في سبب النزول عن مجاهد وابن عباس، ولا يناسب ما في «الصحيح» عن زيد بن ثابت، فتعيّن تأويل المهاجرة بالجهاد في سبيل الله، فالله نهى المسلمين عن ولايتهم إلى أن يخرجوا في سبيل الله في غزوة تقع بعد نزول الآية لأنّ غزوة أُحد، التي انخزل عنها عبد الله بن أبَيّ وأصحابه، قد مضت قبل نزول هذه السورة. وما أبلغ التعبيرَ في جانب محاولة المؤمنين بالإرادة في قوله: {أتريدون أن تهدوا من أضلّ الله} [النساء: 88]، وفي جانب محاولة المنافقين بالودّ، لأنّ الإرادة ينشأ عنها الفعل، فالمؤمنون يستقربون حصول الإيمان من المنافقين، لأنّ الإيمان قريب من فطرة الناس، والمنافقون يعلمون أنّ المؤمنين لا يرتدّون عن دينهم، ويرون منهم محبّتهم إيّاه، فلم يكن طلبهم تكفيرَ المؤمنين إلاّ تمنيّا، فعبّر عنه بالودّ المجرّد. وجملة {فتكونون سواء} تفيد تأكيد مضمون قوله: {بما كفروا} قصد منها تحذير المسلمين من الوقوع في حِبالة المنافقين. وقوله: {فلا تتّخذوا منهم أولياء حتّى يهاجروا في سبيل الله} أقام الله للمسلمين به علامة على كفر المتظاهرين بالإسلام، حتّى لا يعود بينهم الاختلاف في شأنهم، وهي علامة بيّنة، فلم يبق من النفاق شيء مستور إلاّ نفاق منافّقي المدينة. والمهاجرة في سبيل الله هي الخروج من مكة إلى المدينة بقصد مفارقة أهل مكة، ولذلك قال: {في سبيل الله} أي لأجل الوصول إلى الله، أي إلى دينه الذي أراده. وقوله: {فإن تولّوا} أي أعرضوا عن المهاجرة. وهذا إنذار لهم قبل مؤاخذتهم، إذ المعنى: فأبلغوهم هذا الحكم فإن أعرضوا عنه ولم يتقبّلوه فخذوهم واقتلوهم، وهذا يدلّ على أنّ من صدر منه شيء يحتمل الكفر لا يؤاخذ به حتّى يُتَقَدّم له، ويعرّف بما صدر منه، ويُعذَر إليه، فإن التزمه يؤاخذ به، ثمُّ يستتاب. وهو الذي أفتى به سحنون. والولّي: الموالي الذي يضع عنده مولاه سِرّه ومَشورته. والنصير الذي يدافع عن وليّه ويعينه.
{إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا (90)} الاستثناء من الأمر في قوله: {فخذوهم واقتلوهم} أي: إلاّ الذين آمنوا ولم هاجروا. أو إلاّ الذين ارتدّوا على أدبارهم إلى مكة بعد أن يهاجروا، وهؤلاء يصلون إلى قوم ممّن عاهدوكم، فلا تتعرّضوا لهم بالقتل، لئلاّ تنقضوا عهودكم المنعقدة مع قومهم. ومعنى (يَصلُونَ) ينتسبون، مثل معنى اتَّصل في قول أحد بني نبهان: ألاَ بَلْغَا خُلَّني رَاشِداً *** وصِنْوِي قديماً إذَا ما اتَّصل أي انتسب، ويحتمل أن يكون بمعنى التحق، أي إلاّ الذين يلتحقون بقوم بينكم وبينهم ميثاق، فيدخلون في عهدهم، فعلى الاحتْمال الأول هم من المعاهدين أصالة وعلى الاحتمال الثاني هم كالمعاهدين لأنّ معاهَد المعاهَد كالمعاهَد. والمراد ب (الذين يصلون) قوم غير معيّنين، بل كلّ من اتّصل بقوم لهم عهد مع المسلمين، ولذلك قال مجاهد: هؤلاء من القوم الذين نزل فيهم {فما لكم في المنافقين فئتين} [النساء: 88]. وأمّا قوله: {إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق} فالمراد به القبائل التي كان لهم عهد مع المسلمين. قال مجاهد: لمّا نزلت: {فما لكم في المنافقين فئتين} الآية خاف أولئك الذين نزلت فيهم، فذهبوا ببضائعهم إلى هلال بن عويمر الأسلمي، وكان قد حَالف النبي صلى الله عليه وسلم على: أن لا يعينه ولا يعين عليه، وأنّ من لَجَأ إلى هلال من قومه وغيرهم فله من الجوار مثل ما له. وقيل: أريد بالقوم الذين بينكم وبينهم ميثاق خزاعة، وقيل: بنو بكر بن زيد مناءةَ كانوا في صلح وهدنة مع المسلمين، ولم يكونوا آمنوا يومئذٍ وقيل: هم بنو مُدْلِج إذ كان سراقة بن مالك المدلِجي قد عقد عهدا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لقومه بني مدلج بعد يوم بدر، على أن لا يعينوا على رسول الله، وأنّهم إن أسلمتُ قريش أسلموا وإن لم تُسلم قريش فهم لا يسلمون، لئلاّ تخشن قلوب قريش عليهم. والأولى أنّ جميع هذه القبائل مشمول للآية. ومعنى {أو جاؤوكم حصرت صدورهم أن يقاتلوكم} الخ: أو جاءوا إلى المدينة مهاجرين ولكنّهم شرطوا أن لا يقاتلوا مع المؤمنين قومهم فاقْبَلُوا منهم ذلك. وكان هذا رخصة لهم أوّل الإسلام، إذ كان المسلمون قد هادنوا قبائل من العرب تألّفاً لهم، ولمن دخل في عهدهم، فلمّا قوي الإسلام صار الجهاد مع المؤمنين واجباً على كلّ من يدخل في الإسلام، أمّا المسلمون الأوّلون من المهاجرين والأنصار ومن أسلموا ولم يشترطوا هذا الشرط فلا تشملهم الرخصة، وهم الذين قاتلوا مشركي مكة وغيرها. وقرأ الجمهور «حَصِرَت» بصيغة فعل المضي المقترن بتاء تأنيث الفعل وقرأه يعقوب «حَصِرةً» بصيغة الصفة وبهاء تأنيث الوصف في آخره منصوبةٌ منونّة. و {حصرت} بمعنى ضاقت وحرجت. و {أن يقاتلوكم} مجرور بحذف عن، أي ضاقت عن قتالكم، لأجل أنّهم مؤمنون لا يرضون قتال إخوانهم، وعن قتال قومهم لأنّهم من نسب واحد، فعظم عليهم قتالهم. وقد دلّ قوله: {حصرت صدورهم} على أنّ ذلك عن صدق منهم. وأريد بهؤلاء بنو مدلِج: عاهدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك، وقد عذرهم الله بذلك إذ صدَقوا، وبيّن الله تعالى للمؤمنين فائدة هذا التسخير الذي سَخَّر لهم من قوم قد كانوا أعداء لهم فصاروا سلماً يودّونهم. ولكنّهم يأبون قتال قومهم فقال: {ولو شاء الله لسلّطهم عليكم فلقاتلوكم}. ولذلك أمر المؤمنين بكفّ أيديهم عن هؤلاء إن اعتزلوهم ولم يقاتلوهم، وهو معنى قوله: {فما جعل الله لكم عليهم سبيلاً} أي إذْنا بعد أذْن أمر المؤمنين بقتال غيرهم حيث وجدوهم. والسبيل هنا مستعار لوسيلة المؤاخذة، ولذلك جاء في خبره بحرف الاستعلاء دون حرف الغاية، وسيأتي الكلام عليه عند قوله تعالى: {ما على المحسنين من سبيل} في سورة براءة (91).
{سَتَجِدُونَ آَخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا (91)} هؤلاء فريق آخر لا سَعْيَ لهم إلاّ في خُوَيْصْتِهِم، ولا يعبأون بغيرهم، فهم يظهرون المودّة للمسلمين ليأمنوا غزوهم، ويظهرون الودّ لقومهم ليأمنوا غائلتهم، وما هم بمخلصين الودّ لأحد الفريقين، ولذلك وصفوا بإرادة أن يأمنوا من المؤمنين ومن قومهم، فلا هَمّ لهم إلاّ حظوظ أنفسهم، يلتحقون بالمسلمين في قضاء لبانات لهم فيظهرون الإيمانَ، ثم يرجعون إلى قومهم فيرتدّون إلى الكفر، وهو معنى قوله: {كُلَّما رُدّوا إلى الفتنة أُرْكسُوا فيها} [النساء: 91]. وقد مر بيان معنى (أركسوا) قريباً. وهؤلاء هم غَطفان وبنُو أسد ممن كانوا حول المدينة قبل أن يخلص إسلامهم، وبنو عبد الدار من أهل مكة، كانوا يأتون المدينة فيظهرون الإسلام ويرجعون إلى مكة فيعبدون الأصنام. وأمرْ الله المؤمنين في معامَلة هؤلاء ومُعَامَلَة الفريق المتقدّم في قوله: {إلاّ الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق} [النساء: 90] أمرٌ واحد، وهو تركهم إذا تركوا المؤمنين وسالموهم، وقتالُهم إذا ناصبوهم العَداء، إلاّ أن الله تعالى جعل الشرط المفروض بالنسبة إلى الأوّلين: أنّهم يعتزلون المسلمين، ويلقون إليهم السلم، ولا يقاتلونهم، وجعل الشرط المفروض بالنسبة إلى هؤلاء أنّهم لا يعتزلون المسلمين، ولا يلقون إليهم السلم، ولا يكفّون أيديهم عنهم، نظراً إلى الحالة المترقبّة من كلّ فريق من المذكورين. وهو افتنان بديع لم يبق معه اختلاف في الحكم ولكن صرّح باختلاف الحالين، وبوصف ما في ضمير الفريقين. والوجدان في قوله: {ستجدون آخرين} بمعنى العثور والإطّلاع، أي ستطَّلعون على قوم آخرين، وهو من استعمال وَجد، ويتعدّى إلى مفعول واحد، فقوله: {يريدون} جملة في موضع الحال، وسيأتي بيان تصاريف استعمال الوجدان في كلامهم عند قوله تعالى: {لتَجدنّ أشدّ الناس عداوة للذين آمنوا} في سورة المائدة (82). وجيء باسم الإشارة في قوله: وأولئكم جعلنا لكم عليهم سلطاناً مبيناً} لزيادة تمييزهم. (والسلطان المبين) هو الحجّة الواضحة الدالّة على نفاقهم، فلا يُخْشَى أن ينسب المسلمون في قتالهم إلى اعتداء وتفريق الجامعة.
{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (92)} انتقالُ الغرض يعيد نشاط السامع بتفنّن الأغراض، فانتقل من تحديد أعمال المسلمين مع العدوّ إلى أحكام معاملة المسلمين بعضهم مع بعض: من وجوب كفّ عُدوان بعضهم على بعض. والمناسبة بين الغرض المنتقل منه والمنتقَل إليه: أنّه قد كان الكلام في قتال المتظاهرين بالإسلام الذين ظهر نفاقهم، فلا جرم أن تتشوف النفس إلى حكم قتل المؤمنين الخلّص وقد روي أنّه حدث حادثُ قتللِ مُؤمن خطأ بالمدينة ناشئ عن حزازات أيّام القتال في الشرك أخطأ فيه القاتل إذ ظنّ المَقتول كافراً. وحادثُ قتل مؤمن عمداً ممّن كان يظهر الإيمان، والحادث المشار إليه بقوله: {يأيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبيّنوا} [النساء: 94] وأنّ هذه الآيات نزلت في ذلك، فتزداد المناسبة وضوحاً لأنّ هذه الآية تصير كالمقدمة لما ورد بعدها من الأحكام في القتل. هَوّل الله تعالى أمر قتل المسلم أخاه المسلم، وجعله في حَيّز ما لا يكون، فقال: {وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمناً إلاّ خطئاً} فجاء بصيغة المبالغة في النفي، وهي صيغة الجحود، أي ما وُجد لمؤمن أن يقتل مؤمناً في حال من الأحوال إلاّ في حال الخطأ، أو أن يَقتُل قَتْلاً من القتل إلاّ قَتْل الخطأ، فكان الكلام حصراً وهو حصر ادّعائي مراد به المبالغة كأنّ صفة الإيمان في القاتل والمقتول تنافي الاجتماع مع القتل في نفس الأمر منافاة الضدّين لقصد الإيذان بأنّ المؤمن إذا قتل مؤمناً فقد سُلب عنه الإيمان وما هو بمؤمن، على نحو «ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن» فتكون هذه الجملة مستقلّة عمّا بعدها، غير مراد بها التشريع، بل هي كالمقدّمة للتشريع، لقصد تفظيع حال قتل المؤمننِ المؤمنَ قتلاً غيرَ خطإ، وتكون خبرية لفظاً ومعنًى، ويكون الاستثناء حقيقيّاً من عموم الأحوال، أي ينتفي قتل المؤمن مؤمناً في كلّ حال إلاّ في حال عدم القصد، وهذا أحسن ما يبدو في معنى الآية. ولك أن تجعل قوله: {وما كان لمؤمن} خبراً مراداً به النهي، استعمل المركّب في لازم معناه على طريقة المجاز المرسل التمثيلي، وتجعل قوله: {إلاّ خطئاً} ترشيحاً للمجاز: على نحو ما قرّرناه في الوجه الأوّل، فيحصل التنبيه على أنّ صورة الخطأ لا يتعلّق بها النهي، إذ قد عَلم كلّ أحد أنّ الخطأ لا يتعلّق به أمر ولا نهي، يعني إن كان نوع من قتل المؤمن مأذوناً فيه للمؤمن، فهو قتل الخطأ، وقد عُلم أنّ المخطئ لا يأتِي فعلَه قاصداً امتثالاً ولا عصياناً، فرجع الكلام إلى معنى: وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمناً قتلاً تتعلّق به الإرادة والقصدُ بحال أبداً، فتكون الجملة مبدأ التشريع، وما بعدها كالتفصيل لها؛ وعلى هذين الوجهين لا يشكل الاستثناء في قوله: {إلاّ خطئاً}. وذهب المفسّرون إلى أنّ {ما كان لمؤمن أن يقتل مؤمناً} مراد به النهي، أي خبر في معنى الإنشاء فالتجأوا إلى أنّ الاستثناء مُنقطع بمعنى (لَكِن) فراراً من اقتضاء مفهوم الاستثناء إباحةَ أن يقتل مؤمن مؤمناً خطأ، وقد فهمت أنّه غير متوهّم هنا. وإنّما جيء بالقيد في قوله: {ومن قتل مؤمناً خَطَئاً} لأنّ قوله: {وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمناً إلاّ خطئاً} مراد به ادّعاء الحصر أو النهيُ كما علمتَ، ولو كان الخبر على حقيقته لاستغنى عن القيد لانحصار قتل المؤمن بمقتضاه في قتل الخطأ، فيستغنى عن تقييده به. روى الطبري، والواحدي، في سبب نزول هذه الآية: أنّ عيّاشاً بن أبي ربيعة المخزومي كان قد أسلم وهاجر إلى المدينة قبل هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وكان أخَاً أبي جهل لأمّه فخرج أبو جهل وأخوه الحارث بن هشام والحارث بن زيد بن أبي أنيسة في طلبه، فأتوه بالمدينة وقالوا له: إنّ أمّك أقسمت أن لا يُظلِهَّا بيت حتّى تراك، فارجع معنا حتّى تنظر إليك ثم ارجع، وأعطوه موثقاً من الله أن لا يُهجوه، ولا يحولوا بينه وبين دِينه، فخرج معهم فلمّا جاوزوا المدينة أوثقوه، ودخلوا به مكة، وقالوا له «لا نحلّك من وثاقك حتّى تكفر بالذي آمنت به». وكان الحارثُ بنُ زيد يجلده ويعذّبه، فقال عيّاش للحارث «والله لا ألقاك خالياً إلاّ قتلتك» فبقي بمكة حتّى خرج يوم الفتح إلى المدينة فلقي الحارث بن زيد بقُباء، وكان الحارثُ قد أسلم ولم يَعلم عياش بإسلامه، فضربه عياشٌ فقتله، ولما أعلم بأنّه مسلم رجع عيّاش إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بالذي صنع فنزلت: {وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمناً إلاّ خطئاً} فتكون هذه الآية قد نزلت بعد فتح مكة. وفي ابن عطية: قيل نزلت في اليمان، والد حذيفة بن اليمان، حين قتله المسلمون يوم أحُد خطأ. وفي رواية للطبري: أنّها نزلت في قضية أبي الدرداء حين كان في سريّة، فعدل إلى شعب فوجد رَجلاً في غنم له، فحمَل عليه أبو الدرداء بالسيف، فقال الرجل «لا إله إلاّ الله» فضربَه فقتله وجاء بغنمه إلى السرية، ثم وجد في نفسه شيئاً فأتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له، فنزلت الآية. وقوله: {فتحرير رقبة} الفاء رابطة لِجواب الشرط، و(تحرير) مرفوع على الخبرية لمبتدأ محذوف من جملة الجواب: لظهور أنّ المعنى: فحكمهُ أو فشأنه تحرير رقبة كقوله: {فصبر جميل} [يوسف: 18]. والتحرير تفعيل من الحُريّة، أي جعل الرقبة حرّة. والرقبة أطلقت على الذات من إطلاق البعض على الكلّ، كما يقولون، الجزية على الرؤوس على كل رأس أربعة دنانير. ومن أسرار الشريعة الإسلامية حرصها على تعميم الحرية في الإسلام بكيفية منتظمة، فإنّ الله لمّا بعث رسوله بدين الإسلام كانت العبودية متفشيّة في البشر، وأقيمت عليها ثروات كثيرة، وكانت أسبابها متكاثرة: وهي الأسر في الحروب، والتصيير في الديوان، والتخطّف في الغارات، وبيع الآباء والأمّهات أبناءهُمْ، والرهائن في الخوف، والتداين. فأبطل الإسلام جميع أسبابها عدا الأسر، وأبقى الأسر لمصلحة تشجيع الأبطال، وتخويف أهل الدعارة من الخروج على المسلمين، لأنّ العربي ما كان يتقيّ شيئاً من عواقب الحروب مثل الأسر، قال النابغة: حذاراً على أن لا تُنال مَقادتي *** ولا نِسْوَتهي حَتَّى يَمُتْنَ حَرَائِرا ثم داوَى تلك الجراحَ البشرية بإيجاد أسباب الحرية في مناسبات دينية جمّة: منها واجبة، ومنها مندوب إليها. ومن الأسباب الواجبة كفّارة القتل المذكورة هنا. وقد جُعلت كفّارة قتل الخطأ أمرين: أحدهما تحرير رقبة مؤمنة، وقد جعل هذا التحرير بَدلاً من تعطيل حقّ الله في ذات القتيل، فإنّ القتيل عبد من عباد الله ويرجى من نسله من يقوم بعبادة الله وطاعة دينه، فلم يَخْل القاتل من أن يكون فوّت بقتله هذا الوصف، وقد نَبهتْ الشريعة بهذا على أنّ الحرية حياة، وأنّ العبودية موت؛ فمن تسبّب في موت نفس حيّة كان عليه السعي في إحياء نفس كالميتة وهي المستعبَدة. وسنزيد هذا بياناً عند قوله تعالى: {وإذ قال مُوسى لقومه يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكاً} في سورة المائدة (20)، فإنّ تأويله أنّ الله أنقذهم من استعباد الفراعنة فصاروا كالملوك لا يحكمهم غيرهم. وثانيهما الدية. والديّةُ مال يدفع لأهل القتيل خطأ، جبراً لمصيبة أهله فِيه من حيوان أو نقدين أو نحوهما، كما سيأتي. والدية معروفة عند العرب بمعناها ومقاديرها فلذلك لم يفصّلها القرآن. وقد كان العرب جعلوا الدية على كيفيات مختلفة، فكانت عوضاً عن دم القتيل في العمد وفي الخطأ، فأمّا في العمد فكانوا يتعيّرون بأخذها. قال الحَماسي: فلَوْ أنّ حَيّا يقبل المال فدية *** لَسُقْنَا لهم سَيْباً من المال مُفْعَما ولكن أبى قومٌ أصيب أخُوهُمُ *** رِضَى العارِ فاخْتاروا على اللبن الدّما وإذا رضى أولياء القتيل بدية بشفاعة عظماء القبيلة قدروها بما يتراضون عليه. قال زهير: تُعفَّى الكلوم بالمِئينَ فأصبحت *** يُنجِّمُها مَن ليس فيها بمجرم وأمّا في الخطأ فكانوا لا يأبون أخذ الدية، قيل: إنّها كانت عشرة من الإبل وأنّ أوّل من جعلها مائة من الإبل عبد المطلب بن هاشم، إذ فدى ولده عبد الله بعد أن نذر ذبحه للكعبة بمائة من الإبل، فجرت في قريش كذلك، ثمّ تبعهم العرب، وقيل: أوّل من جعل الدية مائة من الإبل أبو سيارة عُمَيْلَةُ العَدواني، وكانت ديَة المَلِك ألفاً من الإبل، ودية السادة مائتين من الإبل، وديّة الحليف نصف دية الصّميم. وأوّل من وُدِي بالإبل هو زيد بن بكر بن هوازن. إذ قتله أخوه معاوية جدّ بني عامر بن صعصعة. وأكثر ما ورد في السنّة من تقدير الدية من مائة من الإبل مُخمسَّة أخماساً: عشرون حقّة، وعشرون جَذعة، وعشرون بنت مخاض، وعشرون بنت لبون، وعشرون ابن لبون. ودية العمد، إذا رضي أولياء القتيل بالدية، مربَّعة: خمسٌ وعشرون من كلّ صنف من الأصناف الأربعة الأوّل. وتغلَّظ الدية على أحد الأبوين تغليظاً بالصنف لا بالعدد، إذا قتل ابنَه خطأ: ثلاثون جذعة، وثلاثون حقة، وأربعون خلفة، أي نوقاً في بطونها أجنّتُها. وإذا كان أهل القتيل غير أهل إبل نقلت الدية إلى قيمة الإبل تقريباً فجعلت على أهل الذهب ألف دينار، وعلى أهل الورق اثني عشر ألف درهم. وقد روي عن عمر بن الخطاب أنّه جعل الديّة على أهل البَقر مائتي بقرة، وعلى أهل الغنم ألفيَ شاةٍ. وفي حديث أبي داود أنّ الدية على أهل الحُلل، أي أهل النسيج مثل أهل اليمن، مائة حلّة. والحلّة ثوبان من نوع واحد. ومعيار تقدير الديات، باختلاف الأعصار والأقطار، الرجوع إلى قيمة مقدارها من الإبل المعيّن في السُّنَّة. ودية المرأة القتيلة على النصف من دية الرجل. ودية الكتابي على النصف من دية المسلم. ودية المرأة الكتابية على النصف من دية الرجل الكتابي. وتدفع الدية منجّمة في ثلاث سنين بعد كلّ سنة نجم، وابتداء تلك النجوم من وقت القضاء في شأن القتل أو التراوض بين أولياء القتيل وعاقلةِ القاتل. والدية بتخفيف الياء مصدر وَدَي، أي أعطى، مثل رمَى، ومصدره وَدْي مثل وعد، حذفت فاء الكلمة تخفيفاً، لأنّ الواو ثقيلة، كما حذفت في عِدّة، وعوّض عنها الهاء في آخر الكلمة مثل شِيَة من الوشي. وأشار قوله: مسلَّمَةٌ إلى أهله} إلى أنّ الدية ترضية لأهل القتيل. وذُكر الأهل مجملاً فعُلم أنّ أحقّ الناس بها أقرب الناس إلى القتيل، فإنّ الأهل هو القريب، والأحقّ بها الأقرب. وهي في حكم الإسلام يأخذها ورثة القتيل على حسب الميراث إلاّ أنّ القاتل خطأ إذا كان وارثاً للقتيل لا يرث من ديته. وهي بمنزلة تعويض المتلفات، جعلت عوضاً لحياة الذي تسبّب القاتلُ في قتله، وربما كان هذا المعنى هو المقصود من عهد الجاهلية، ولذلك قالوا: تَكايُل الدّماء، وقالوا: هُما بَوَاء، أي كفآن في الدم وزادوا في دية سادتهم. وجَعَل عفوَ أهل القتيل عن أخذ الدية صدقة منهم ترغيباً في العفو. وقد أجمل القرآن من يجب عليه دفع الدية وبيّنته السنّة بأنّهم العاقلة، وذلك تقرير لِما كان عليه الأمر قبل الإسلام. والعاقلة: القَرابة من القبيلة. تجب على الأقرب فالأقرب بحسب التقدّم في التعصيب. وقوله: {فإن كان من قوم عدوّ لكم وهو مؤمن} الآية أي إن كان القتيل مؤمناً وكان أهله كفاراً، بينَهم وبين المسلمين عداوة، يقتصر في الكفّارة على تحرير الرقبة دون دفع دية لهم، لأنّ الدية: إذا اعتبرناها جبَراً لأولياء الدم، فلمّا كانوا أعداء لم تكن حكمة في جبر خواطرهم، وإذا اعتبرناها عِوضاً عن منافع قتيلهم، مثل قيم المتلفات، يَكون منعُها من الكفّار؛ لأنّه لا يرث الكافر المسلم، ولأنّا لا نعْطيهم مالَنا يَتقوون به علينا. وهذا الحكم متّفق عليه بين الفقهاء، إن كان القتيل المؤمن باقياً في دار قومه وهم كفّار فأمّا إن كان القتيل في بلاد الإسلام وكان أولياؤه كفّاراً، فقال ابن عبّاس، ومالك، وأبو حنيفة: لا تسقط عن القاتل ديته، وتُدفع لبيت مال المسلمين. وقال الشافعي، والأوزاعي، والثَّوري: تسقط الدية لأنّ سبب سقوطها أنّ مستحقيها كفّار. وظاهر قوله تعالى: {وإن كان من قوم عدوّ} أنّ العبرة بأهل القتيل لا بمكان إقامته، إذ لا أثر لمكان الإقامة في هذا الحكم ولو كانت إقامته غير معذور فيها. وأخبر عن {قوم} بلفظ {عدوّ} وهو مفرد، لأنّ فَعولاً بمعنى فاعل يكثر في كلامهم أن يكون مفرداً مذكَّراً غيرَ مطابق لموصوفه، كقوله: {إنّ الكافرين كانُوا لكم عدوّاً مبيناً} [النساء: 101] {لا تتّخذوا عدوّي وعدوّكم أولياء} [الممتحنة: 1] {وكذلك جعلنا لكلّ نبيء عدوّاً شياطين الأنس} [الأنعام: 112]، وامرأة عدوّ وشذّ قولهم عَدوّة. وفي كلام عمر بن الخطاب في «صحيح البخاري» أنّه قال للنسوة اللاتي كنّ بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم فلمّا دخل عمر ابتدرن الحجاب لمّا رأينه «يا عدوّات أنفُسِهِنُّ». ويجمع بكثرة على أعداء، قال تعالى: {ويوم نحشر أعداء الله إلى النار} [فصلت: 19]. وقوله: {وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق} أي إن كان القتيل المؤمن. فجعل للقوم الذين بين المسلمين وبينهم ميثاق، أيّ عهدٌ من أهل الكفر، ديةَ قتيلهم المؤمننِ اعتداداً بالعهد الذي بيننا وهذا يؤذن بأنّ الدية جبر لأولياء القتيل، وليست مالاً موروثاً عن القاتل، إذ لا يرث الكافر المسلم، فلا حاجة إلى تأويل الآية بأن يكون للمقتول المؤمن وارثٌ مؤمنٌ في قوم معاهدَين، أو يكون المقتول معاهداً لا مؤمناً، بناء على أنّ الضمير في «كان» عائد على القتيل بدون وصف الإيمان، وهو تأويل بعيد لأنّ موضوع الآية فيمن قَتل مؤمناً خطأ. ولا يهولنّكم التصريح بالوصف في قوله: {وهو مؤمن} لأنّ ذلك احتراس ودفع للتوهّم عند الخبر عنه بقوله: {من قوم عدوَ لكم} أن يَظُنَ أحد أنّه أيضاً عدوّ لنا في الدّين. وشرط كون القتيل مؤمناً في هذا لحكم مدلول بحَمْل مطلقه هنا على المقيَّد في قوله هنالك {وهو مؤمن}، ويكون موضوع هذا التفصيل في القتيل المسلم خطأ لتصدير الآية بقوله: {ومن قَتَل مؤمناً خطئاً}، وهذا قول مالك، وأبي حنيفة. وذهبت طائفة إلى إبقاء المطلق هنا على إطلاقه، وحملوا معنى الآية على الذمّي والمعاهَد، يُقتل خطأ فتجب الدية وتحريرُ رقبة، وهو قول ابن عباس، والشعبي، والنخعي، والشافعي، ولكنّهم قالوا: إنّ هذا كان حكماً في مشركي العرب الذين كان بينهم وبين المسلمين صلح إلى أجل، حتّى يسلموا أو يؤذَنوا بحَرب، وإنّ هذَا الحكم نسِخ. وقوله: {فصيام شهرين متتابعين} وصف الشهران بأنّهما متتابعان والمقصود تتابع أيامهما. لأنّ تتابع الأيام يستلزم توالي الشهرين. وقوله: «توبة من الله» مفعول لأجله على تقدير: شرع الله الصيام توبة منه. والتوبة هنا مصدر تاب بمعنى قبل التوبة بقرينة تعديته ب (من)، لأنّ تاب يطلق على معنى ندم وعلى معنى قبل منه، كما تقدّم في قوله تعالى: {إنما التوبة على الله} [النساء: 17] في هذه السورة، أي خفّف الله عن القاتل فشرع الصيام ليتوب عليه فيما أخطأ فيه لأنّه أخطأ في عظيم. ولك أن تجعل {توبة} مفعولاً لأجله راجعاً إلى تحرير الرقبة والدية وبَدلِهِما، وهو الصيام، أي شرع الله الجميع توبة منه على القاتل، ولو لم يشرع له ذلك لعاقبهُ على أسباب الخطأ، وهي ترجع إلى تفريط الحذر والأخذ بالحزم. أو هو حال من «صيام»، أي سببَ توبة، فهو حال مجازية عقلية.
{وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا (93)} هذا هو المقصود من التشريع لأحكام القتل، لأنّه هو المتوقّع حصوله من الناس، وإنّما أخرّ لتهويل أمره، فابتدأ بذكر قتْل الخطأ بعنوان قوله: {وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمناً إلاّ خطأ} [النساء: 92]. والمتعمّد: القاصد للقتل، مشتقّ من عَمَد إلى كذا بمعنى قَصد وذهب. والأفعال كلّها لا تخرج عن حالتي عمد وخطأ، ويعرف التعمّد بأن يكون فعلاً لا يفعله أحد بأحد إلاّ وهو قاصد إزهاق روحه بخصوصه بما تُزهق به الأرواح في متعارف الناس، وذلك لا يخفى على أحد من العقلاء. ومن أجل ذلك قال الجمهور من الفقهاء: القتل نوعان عمد وخطأ، وهو الجاري على وفق الآية، ومن الفقهاء من جعل نوعاً ثالثاً سمّاه شبه العمد، واستندوا في ذلك إلى آثار مروية، إن صحّت فتأويلها متعيّن وتحمل على خصوص ما وردت فيه. وذكر ابن جرير والواحدي أنّ سبب نزول هذه الآية أنّ مِقْيَساً بنَ صُبَابة وأخاه هشام جاءا مسلمَين مهاجرين فوُجِد هشامٌ قتيلاً في بني النجّار، ولم يُعرف قاتله، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بإعطاء أخيه مِقْيَسٌ مائةٌ من الأبل، دية أخيه، وأرسل إليهم بذلك مع رجل من فهِر فلمّا أخَذ مقيس الإبلَ عدَا على الفهري فقتله، واستاق الإبل، وانصرف إلى مكة كافراً، وأنشد في شأن أخيه: قتلتُ به فهِراً وحَمَّلْتُ عقلَه *** سُراة بني النجّار أرْبابَ فَارِع حلَلْتُ به وِتْري وأدركتُ ثأرتي *** وكنتُ إلى الأوثاننِ أوّلَ راجع وقد أهدر رسول الله صلى الله عليه وسلم دمه يوم فتح مكة، فقتِل بسوق مكة. وقوله: {خالداً فيها} مَحْمَلهُ عند جمهور علماء السنّة على طول المُكث في النار لأجل قتل المؤمن عمداً، لأنّ قتل النفس ليس كفراً بالله ورسوله، ولا خلودَ في النار إلاّ للكفر، على قول علمائنا من أهل السنّة، فتعيّن تأويل الخلود بالمبالغة في طول المكث، وهو استعمال عربي. قال النابغة في مرض النعمان بن المنذر: ونحن لديه نسأل الله خُلْدَه *** يَرُدّ مَلْكاً وللأرضضِ عامِرا ومحمله عند من يُكفّر بالكبائر من الخوارج، وعند من يوجب الخلود على أهل الكبائر، على وتيرة إيجاب الخلود بارتكاب الكبيرة. وكلا الفريقين متّفقون على أنّ التوبة تَرِد على جريمة قتل النفس عمداً، كما تَرِد على غيرها من الكبائر، إلاّ أنّ نَفراً من أهل السنّة شذّ شذوذاً بيّنا في محمل هذه الآية: فروي عن ابن مسعود، وابن عمر، وابن عباس: أنّ قاتل النفس متعمّداً لا تقبل له توبة، واشتهر ذلك عن ابن عباس وعُرف به، أخذاً بهذه الآية، وأخرج البخاري أنّ سعيد بن جبير قال: آيةٌ اختلف فيها أهل الكوفة، فرحلتُ فيها إلى ابن عباس، فسألتُه عنها، فقال: نزلت هذه الآية {ومن يقتل مؤمناً متعمّداً فجزاؤه جهنّم خالداً فيها} الآية. هي آخر ما نزل وما نسخَها شيء، فلم يأخذ بطريق التأويل. وقد اختلف السلف في تأويل كلام ابن عباس: فحمله جماعة على ظاهره، وقالوا: إنّ مستنده أنّ هذه الآية هي آخر ما نزل، فقد نَسخَت الآياتتِ التي قبلها، التي تقتضي عموم التوبة، مثل قوله: {إنّ الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} [النساء: 116]، فقاتل النفس ممن لم يشأ الله يغفر له ومثل قوله {واني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحاً ثم اهتدى} [طه: 82]، ومثل قوله: {والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر ولا يقتلون النفس التي حرّم الله إلاّ بالحقّ ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاماً يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهاناً إلاّ مَن تاب وآمن وعمل عملاً صالحاً} [الفرقان: 68، 69]. والحقّ أنّ محلّ التأويل ليس هو تقدّمَ النزول أو تأخُّره، ولكنّه في حمل مطلق الآية على الأدلّة التي قيّدت جميع أدلّة العقوبات الأخروية بحالة عدم التوبة. فأمّا حكم الخلود فحمله على ظاهره أو على مجازه، وهو طولُ المدّة في العقاب، مسألة أخرى لا حاجة إلى الخوض فيها حين الخوضضِ في شأن توبة القاتل المتعمّد، وكيف يُحرم من قبول التوبة، والتوبةُ من الكفر، وهو أعظمُ الذنوب مقبولة، فكيف بما هو دونه من الذنوب. وحمل جماعة مراد ابن عبّاس على قصد التهويل والزجر، لئلاّ يجترئ الناس على قتل النفس عمداً، ويرجون التوبة، ويَعْضُدون ذلك بأنّ ابن عباس رُوي عنه أنّه جاءه رجل فقال: «ألِمَنْ قتل مؤمناً متعمّداً توبة» فقال: «لاَ إلاّ النار»، فلمّا ذهب قال له جلساؤه «أهكذا كنت تفتينا فقد كنت تقول إنّ توبته مقبولة» فقال: «إنّي لأحْسِبُ السائل رجلاً مغضَباً يريد أن يقتل مؤمناً»، قل: فبعثوا في أثره فوجدوه كذلك. وكان ابن شهاب إذا سألَه عن ذلك من يَفْهَم مِنْه أنّه كان قَتل نفساً يقول له: «توبتُك مقبولة» وإذا سأله من لم يقتل، وتوسّم من حاله أنّه يحاول قتلَ نفس، قال له: لا توبةَ للقاتل. وأقول: هذا مقام قد اضطربت فيه كلمات المفسّرين كما علمت، وملاكه أنّ ما ذكره الله هنا في وعيد قاتل النفس قد تجاوز فيه الحدّ المألوف من الإغلاظ، فرأى بعض السلف أنّ ذلك موجب لحمل الوعيد في الآية على ظاهره، دون تأويل، لشدّة تأكيده تأكيداً يمنع من حمل الخلود على المجاز، فيُثبت للقاتل الخلودَ حقيقة، بخلاف بقية آي الوعيد، وكأنّ هذا المعنى هو الذي جعلهم يخوضون في اعتبار هذه الآية محكمةً أو منسوخة، لأنّهم لم يجدوا مَلْجأ آخرَ يأوُون إليه في حملها على ما حُملت عليه آيات الوعيد: من محامِل التأويل، أو الجمععِ بين المتعارضات، فآووا إلى دَعوى نسخخِ نصّها بقوله تعالى في سورة الفرقان (68، 69): {والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر} إلى قوله {إلاّ من تاب} لأنّ قوله: ومن يفعل ذلك إمّا أن يراد به مجموع الذنوب المذكورة، فإذا كان فاعل مجموعها تنفعه التوبة ففاعل بعضها وهو القتل عمداً أجدر، وإمّا أن يراد فاعل واحدة منها فالقتل عمداً مما عُدَّ معها. ولذا قال ابن عباس لسعيد بن جبير: إنّ آية النساء آخر آية نزلت وما نسخها شيء. ومن العجب أن يقال كلام مثل هذا، ثم أن يُطال وتتناقله الناس وتمرّ عليه القرون، في حين لا تعارض بين هذه الآية التي هي وعيد لقاتل النفس وبين آيات قبول التوبة. وذهب فريق إلى الجواب بأنّها نُسخت بآية: {ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} [النساء: 48]، بناء على أنّ عموم {من يشاء} نَسَخ خصوصَ القتل. وذهب فريق إلى الجواب بأنّ الآية نزلت في مِقْيَسسٍ بن صُبابة، وهو كافر فالخلود لأجل الكفر، وهو جواب مبني على غلط لأنّ لفظ الآية عامّ إذ هو بصيغة الشرط فتعيّن أنّ «من» شرطية وهي من صيغ العموم فلا تحمل على شخص معيّن؛ إلاّ عند من يرى أنّ سبب العامّ يخصّصه بسببه لا غيرُ، وهذا لا ينبغي الالتفات إليه. وهذه كلّها ملاجئ لا حاجة إليها، لأنّ آيات التوبة ناهضة مجمع عليها متظاهرة ظواهرها، حتّى بلغت حدّ النصّ المقطوع به، فيحمل عليها آيات وعيد الذنوب كلّها حتّى الكفر. على أنّ تأكيد الوعيد في الآية إنّما يرفع احتمال المجاز في كونه وعيداً لا في تعيين المتوعّد به وهو الخلود. إذ المؤكّدات هنا مختلفة المعاني فلا يصحّ أن يعتبر أحدها مؤكّداً لمدلول الآخر بل إنّما أكَّدت الغرض. وهو الوعيد، لا أنواعه. وهذا هو الجواب القاطع لهاته الحيرة. وهو الذي يتعيّن اللجأ إليه، والتعويل عليه.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (94)} استئناف ابتدائي خوطب به المؤمنون، استقصاء للتحذير من قتل المؤمن بذكر أحواللٍ قد يُتساهَل فيها وتعرِض فيها شبهٌ. والمناسبة ما رواه البخاري، عن ابن عبّاس، قال: كان رجل في غُنَيْمَة له فلَحقِه المسلمون، فقال: السلام عليكم، فقتلوه وأخذوا غُنَيْمَتُه، فأنزل الله في ذلك هذه الآية. وفي رواية وقال: لا إله إلاّ الله محمد رسول الله. وفي رواية أنّ النبي صلى الله عليه وسلم حمل ديته إلى أهله وردّ غُنَيْمتَه واختلف في اسم القاتل والمقتول، بعد الاتّفاق على أنّ ذلك كان في سريّة، فروى ابن القاسم، عن مالك: أنّ القاتل أسَامة بن زيد، والمقتول مِرْدَاس بن نَهِيك الفَزَاري من أهل فَدَكَ، وفي سيرة ابن إسحاق أنّ القاتل مُحلَّم من جَثامة، والمقتول عامر بن الأضْبط. وقيل: القاتل أبو قتادة، وقيل أبو الدرداء، وأن النبي صلى الله عليه وسلم وبّخ القاتل، وقال له: " فَهَلاّ شققت عن بَطْنه فعلمتَ ما في قلبه ". ومخاطبتهم ب {أيها الذين آمنوا} تلوّح إلى أنّ الباعث على قتل من أظهر الإسلام منهي عنه، ولو كان قصْد القاتل الحرصَ على تحقَّق أنّ وصف الإيمان ثابت للمقتول، فإنّ هذا التحقّق غيرُ مراد للشريعة، وقد ناطت صفة الإسلام بقول: «لا إله إلاّ الله محمد رسول الله» أو بتحية الإسلام وهي «السلام عليكم». والضرب: السير، وتقدّم عند قوله تعالى: {وقالوا لإخوانهم إذا ضربوا في الأرض} في سورة آل عمران (156). وقوله: في سبيل الله ظرف مستقرٌ هو حال من ضمير {ضربتم} وليس متعلّقاً ب«ضربتم» لأنّ الضرب أي السيّر لا يكون على سبيل الله إذ سبيل الله لقب للغزو، ألا ترى قوله تعالى: {وقالوا لإخوانهم إذا ضربوا في الأرض أو كانوا غزىًّ} الآية. والتبيّن: شدّة طلب البيان، أي التأمّل القويّ، حسبما تقتضيه صيغة التفعّل. ودخول الفاء على فِعل «تبيّنوا» لما في (إذا) من تضمّن معنى الاشتراط غالباً. وقرأ الجمهور: {فتبيّنوا} بفوقية ثم موحّدة ثم تحتيّة ثم نون من التبيّن وهو تفعّل، أي تثبّتوا واطلبوا بيان الأمور فلا تعجلوا فتتّبعوا الخواطر الخاطفة الخاطئة. وقرأه حمزة، والكسائي، وخَلف: {فتثبّتوا} بفاء فوقية فمثلّثة فموحّدة ففوقيّة بمعنى اطلبوا الثابت، أي الذي لا يتبدّل ولا يحتمل نقيض ما بَدَا لَكم. وقوله: {ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لستَ مؤمناً} قرأ نافع، وابن عامر، وحمزة، وخلف «السَّلَم» بدون ألف بعد اللام وهو ضدّ الحرْب، ومعنى ألقى السلَم أظهره بينكم كأنّه رماه بينهم، وقرأ البقية «السَّلام» بالألف وهو مشترك بين معنى السلم ضدّ الحرب، ومعنى تحية الإسلام، فهي قول: السلام عليكم، أي من خاطبَكم بتحية الإسلام علامةً على أنّه مسلم. وجملة {لست مؤمناً} مَقول {لا تقولوا}. وقرأ الحمهور: {مؤمناً} بكسر الميم الثانية بصيغة اسم الفاعل، أي لا تنْفوا عنه الإيمان وهو يظهره لكم، وقرأه ابن وردان عن أبي جعفر بفتح الميم الثانية بصيغة اسم المفعول، أي لا تقولوا له لست مُحصّلاً تأمينَنَا إياك، أي إنّك مقتولا أو مأسُور. و{عرض الحياة}: متاح الحياة، والمراد به الغنيمة فعبّر عنها ب {عرض الحياة} تحقيراً لها بأنّها نفع عارض زائل. وجملة {تبتغون} حالية، أي ناقشتموه في إيمانه خشيَة أن يكون قصَد إحراز ماله، فكان عدمُ تصديقه آئلاً إلى ابتغاء غنيمة ماله، فأوخذوا بالمآل. فالمقصود من هذا القيد زيادة التوبيخ، مع العلم بأنّه لو قال لمن أظهر الإسلام: لستَ مؤمناً، وقتَله غير آخذ منه مالاً لكان حكمه أوْلى ممّن قصَد أخذ الغنيمة، والقيد ينظر إلى سبب النزول، والحكمُ أعّم من ذلك. وكذلك قوله: {فعند الله مغانم كثيرة} أي لم يحصر الله مغانمَكم في هذه الغَنيمة. وزاد في التوبيخ قوله: {كذلك كنتم من قبل} أي كنتم كفّاراً فدخلتم الإسلام بكلمة الإسلام، فلو أنّ أحداً أبى أن يصدّقكم في إسلامكم أكان يُرضيكم ذلك. وهذه تربية عظيمة، وهي أن يستشعر الإنسان عند مؤاخذته غيره أحْوالاً كان هو عليها تساوي أحوال مَن يؤاخذه، كمؤاخذة المعلّم التلميذ بسوء إذا لم يقصّر في إعمال جهده. وكذلك هي عظة لمن يمتحنون طلبة العلم فيعتادون التشديد عليهم وتطلّب عثراتهم، وكذلك ولاة الأمور وكبار الموظّفين في معاملة من لنظرهم من صغار الموظّفين، وكذلك الآباء مع أبنائهم إذا بلغت بهم الحماقة أن ينتهروهم على اللعب المعتاد أو على الضجر من الآلام. وقد دلّت الآية على حكمة عظيمة في حفظ الجامعة الدينية، وهي بثّ الثقة والأمان بين أفراد الأمّة، وطرح ما من شأنه إدخال الشكّ لأنّه إذا فتح هذا الباب عسر سَدّه، وكما يتّهم المتّهمُ غيرَه فللغير أن يتّهم مَن اتّهمه، وبذلك ترتفع الثقة، ويسهل على ضعفاء الإيمان المروق، إذ قد أصبحت التهمة تُظلّ الصادق والمنافق، وانظر معاملة النبي صلى الله عليه وسلم المنافقين معاملة المسلمين. على أنّ هذا الدين سريع السريان في القلوب فيكتفي أهله بدخول الداخلين فيه من غير مناقشة، إذ لا يلبثون أن يألفوه، وتخالط بشاشتُه قلوبَهم، فهم يقتحمونه على شكّ وتردّد فيصير إيماناً راسخاً، وممّا يعين على ذلك ثقة السابقين فيه باللاحقين بهم. ومن أجل ذلك أعاد الله الأمرَ فقال: {فتبَيّنوا} تأكيداً ل (تبينّوا) المذكورِ قبْله، وذيَّله بقوله: {إنّ الله كان بما تعملون خبيراً} وهو يجمع وعيداً ووعداً.
{لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (95) دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (96)} ولمّا لام الله بعض المجاهدين على ما صدر منهم من التعمّق في الغاية من الجهاد، عقَّب ذلك ببيان فضل المجاهدين كيْلا يكون ذلك اللومُ موهِماً انحطاط فضيلتهم في بعض أحوالهم، على عادة القرآن في تعقيب النذارة بالبشارة دفعاً لليأس من الرحمة عن أنفُس المسلمين. يقول العرب «لا يستوي وليس سواءً» بمعنى أنّ أحد المذكورين أفضل من الآخر. ويعتمدون في ذلك على القرينة الدالّة على تعيين المفضّل لأنّ من شأنه أن يكون أفضل. قال السموأل أو غيره: فليس سواءً عالم وجهول *** وقال تعالى: {ليسوا سواء} [آل عمران: 113]، وقد يُتبعونه بما يصرّح بوجه نفي السوائية: إمّا لخفائه كقوله تعالى: {لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا} [الحديد: 10]، وقد يكون التصريح لمجرّد التأكيد كقوله: {لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة أصحاب الجنة هم الفائزون} [الحشر: 20]. وإذ قد كان وجه التفاضل معلوماً في أكثر مواقع أمْثال هذا التركيب، صار في الغالب أمثال هذا التركيب مستعملة في معنى الكناية، وهو التعريض بالمفضول في تفريطه وزُهده فيما هو خير مع المكنة منه، وكذلك هو هنا لظهور أنّ القَاعد عن الجهاد لا يساوي المجاهد في فضيلة نصرة الدين، ولا في ثوابه على ذلك، فتعيّن التعريض بالقاعدين وتشنيع حالهم. وبهذا يظهر موقع الاستثناء بقوله: {غيرَ أولي الضرر} كيلا يحسِبَ أصحاب الضرر أنهم مقصودون بالتحريض فيَخرجوا مع المسلمين، فيكلفّوهم مؤونة نقلهم وحفظهم بلا جدوى، أو يظنّوا أنّهم مقصودون بالتعريض فتنكسر لذلك نفوسهم، زيادة على انكسارها بعجزهم، ولأنّ في استثنائهم إنصافاً لهم وعذراً بأنّهم لو كانوا قادرين لما قعدوا، فذلك الظنّ بالمؤمن، ولو كان المقصود صريحَ المعنى لما كان للاستثناء موقع. فاحفظوا هذا فالاستثناء مقصود، وله موقع من البلاغة لايضاع، ولو لم يذكر الاستثناء لكان تجاوز التعريض أصحاب الضرر معلومات في سياق الكلام فالاستثناء عدول عن الاعتماد على القرينة إلى التصريح باللفظ. ويدلّ لهذا ما في «الصحيحين»، عن زيد بن ثابت. أنّه قال: نزل الوحي على رسول الله وأنا إلى جنبه ثم سريّ عنه فقال: اكتُب، فكتبت في كَتف (لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدُون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم)، وخَلْفَ النبي ابنُ أمّ مكتوم فقال: يا رسول الله لو أستطيع الجهاد لجاهدت، فنزلت مكانها {لا يستوي القاعدون من المؤمنين غيرَ أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله} الآية. فابن أمّ مكتوم فَهم المقصود من نفي الاستواء فظنّ أنّ التعريض يشمله وأمثاله، فإنّه من القاعدين، ولأجل هذا الظنّ عُدل عن حراسة المقام إلى صراحة الكلام، وهما حالان متساويان في عرف البلغاء، هما حال مراعاة خطاب الذكي وخطاب الغبي، فلذلك لم تكن زيادة الاستثناء مفيتة مقتضى حال من البلاغة، ولكنها معوّضته بنظيره لأنّ السامعين أصناف كثيرة. وقرأ نافع، وابن عامر، وأبو جعفر، وخلف: {غيرَ} بنصب الراء على الحال من {القاعدون}، وقرأه ابن كثير، وأبو عمرو، وعاصم، وحمزة، والكسائي، ويعقوب بالرفع على النعت ل {القاعدون}. وجاز في «غير» الرفعُ على النعت، والنصب على الحال، لأنّ (القاعدون) تعريفهُ للجنس فيجوز فيه مراعاة اللفظ ومراعاة المعنى. والضرر: المرض والعاهة من عمّى أو عرج أو زَمانةٍ، لأنّ هذه الصيغة لمصادر الأدواء ونحوها، وأشهر استعماله في العمى، ولذلك يقال للأعمى: ضرير، ولا يقال ذلك للأعرج والزمن، وأحسب أنّ المراد في هذه الآية خصوص العمى وأنّ غيره مقيس عليه. والضرر مصدر ضرِر بكسر الراء مثل مرض، وهذه الزنة تجيء في العاهات ونحوها، مثل عَمي وعَرج وحَصر، ومصدرها مفتوح العين مثل العَرج، ولأجل خفّته بفتح العين امتنع إدغام المثلين فيه، فقيل: ضَرَر بالفكّ، وبخلاف الضُرّ الذي هو مصدر ضَرّه فهو واجب الإدغام إذ لا موجب للفكّ. ولا نعرف في كلام العرب إطلاق الضرر على غير العَاهات الضارّة؛ وأمّا ما روي من حديث " لا ضَرر ولا ضِرار " فهو نادرٌ أوْ جرى على الإتْباع والمزاوجة لاقترانه بلفظ ضِرَار وهو مفكّك. وزعم الجوهري أنّ ضرر اسم مصدر الضرّ، وفيه نظر؛ ولم يحفظ عن غيره ولا شاهد عليه. وقوله: {بأموالهم وأنفسهم} لأنّ الجهاد يقتضي الأمرين: بذل النفس وبذل المال، إلاّ أنّ الجهاد على الحقيقة هو بذل النفس في سبيل الله ولو لم يتفق شيئاً، بل ولو كان كَلاًّ على المؤمنين، كما أنّ من بَذل المال لإعانة الغزاة، ولم يجاهد بنفسه، لا يسمّى مجاهداً وإن كان له أجر عظيم، وكذلك من حبسه العذر وكان يتمنّى زوال عذره واللحاق بالمجاهدين، له فضل عظيم، ولكن فضل الجهاد بالفعل لا يساويه فضل الآخرين. / وجملة: {فضّل الله المجاهدين} بيان لجملة: {لا يستوي القاعدون من المؤمنين}. وحقيقة الدرجة أنّها جزء من مكان يكون أعلى من جزء أخرَ متّصل به، بحيث تتخطّى القدَم إليه بارتقاء من المكان الذي كانت عليه بصعود، وذلك مثل درجة العُلَيّة ودرجة السلَّم. والدرجة هنا مستعارة للعلوّ المعنوي كما في قوله تعالى: {وللرجال عليهنّ درجة} [البقرة: 228] والعلوّ المراد هنا علوّ الفضل ووفرة الأجر. وجيء ب (درجة) بصيغة الإفراد، وليس إفرادُها للوحدة، لأنّ درجة هنا جنس معنوي لا أفراد له، ولذلك أعيد التعبير عنها في الجملة التي جاءت بعدها تأكيداً لها بصيغة الجمع بقوله: {درَجاتتٍ منه} لأنّ الجمع أقوى من المفرد. وتنوين {درجة} للتعظيم. وهو يساوي مفاد الجمع في قوله الآتي {درجات منه}. وانتصب {درجة} بالنيابة عن المفعول المطلق المبيّن للنوع في فعل {فَضْل} إذ الدرجة هنا زيادة في معنى الفضل، فالتقدير: فَضْل الله المجاهدين فَضْلاً هو درجة، أي درجةً فضلاً. وجملة {وكُلاً وعد الله الحسنى} معترضة. وتنوين «كلاً» تنوين عوض عن مضاف إليه، والتقدير: وكلُّ المجاهدين والقاعدين. وعُطف {وفضّل الله المجاهدين على القاعدين أجراً عظيماً} على جملة {فضّل الله المجاهدين}، وإن كان معنى الجملتين واحداً باعتبار ما في الجملة الثانية من زيادة {أجراً عظيماً} فبذلك غايرت الجملةُ المعطوفة الجملةَ المعطوفَ عليها مغايرة سوّغت العطف، مع ما في إعادة معظم ألفاظها من توكيد لها. والمراد بقوله: {المجاهدين} المجاهدون بأموالهم وأنفسهم فاستُغني عن ذكر القيد بما تقدّم من ذكره في نظيره السابق. وانتصَب {أجراً عظيماً} على النيابة عن المفعول المطلق المبيِّن للنوع لأنّ الأجر هو ذلك التفضيل، ووصف بأنّه عظيم. وانتصب درجات على البدل من قوله {أجراً عظيماً}، أو على الحال باعتبار وصف درجات بأنّها {منه} أي من الله. وجُمع {درجات} لإفادة تعظيم الدرجة لأنّ الجمع لما فيه من معنى الكثرة تستعار صيغته لمعنى القوّة، ألا ترى أنّ علقمة لمّا أنشد الحارثَ بنَ جبلة ملِكَ غسان قولَه يستشفع لأخيه شَأس بن عبْدة: وفي كلّ حي قد خَبَطْتَ بنعمة *** فحقّ لشَأس من نَداك ذَنُوب قال له الملك «وأذنبة».
{إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (97) إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا (98) فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا (99)} فلمّا جاء ذكر القاعدين عن الجهاد من المؤمنين بعذر وبدونه، في الآية السالفة، كان حال القاعدين عن إظهار إسلامهم من الذين عزموا عليه بمكة، أو اتّبعوه ثمّ صدّهم أهل مكة عنه وفتنوهم حتّى أرجعهوهم إلى عبادة الأصنام بعذر وبدونه، بحيث يخطر ببال السامع أن يتساءل عن مصيرهم إن هم استمرّوا على ذلك حتّى ماتوا، فجاءت هذه الآية مجيبة عمّا يجيش بنفوس السّامعين من التساؤل عن مصير أولئك، فكان موقعها استئنافاً بيانياً لسائل متردّد، ولذلك فصلت، ولذلك صدّرت بحرف التأكيد، فإنّ حالهم يوجب شكّاً في أن يكونوا ملحقين بالكفّار، كيف وهم قد ظهر ميلهم إلى الإسلام. ومنهم من دخل فيه بالفعل ثم صدّ عنه أو فتن لأجله. والموصول هنا في قوّة المعرّف بلام الجنس، وليس المراد شخصاً أو طائفة بل جنس من مات ظالماً نفسه، ولِما في الصلة من الإشعار بعلّة الحكم وهو قوله: {فأولئك مأواهم جهنّم}، أي لأنّهم ظلموا أنفسهم. ومعنى {توفّاهم} تُميتهم وتقبض أرواحهم، فالمعنى: أنّ الذين يموتون ظالمي أنفسهم، فعدل عن يموتون أو يتُوفَّوْن إلى تَوفّاهم الملائكةُ ليكون وسيلة لبيان شناعة فتنتهم عند الموت. و«الملائكة» جمع أريد به الجنس، فاستوى في إفادة معنى الجنس جمعُه، كما هنا، ومُفرده كما في قوله تعالى: {قل يتوفّاكم مَلَك الموتتِ الذي وكّل بكم} [السجدة: 11] فيجوز أن يكون ملك الموت الذي يقبض أرواحَ الناس واحِداً، بقوة منه تصل إلى كلّ هالك، ويجوز أن يكون لكلّ هالك ملَك يقبض روحه، وهذا أوضح، ويؤيّده قوله تعالى: {إنّ الذين توفّاهم الملائكة} إلى قوله: {قالوا فيم كُنتم}. و {تَوفّاهم} فعل مضي يقال: توفّاه الله، وتَوفّاه ملك الموت، وإنّما لم يقرن بعلامة تأنيث فاعل الفعل، لأنّ تأنيث صيغ جموع التكسير تأنيث لفظي لا حقيقي فيجوز لَحاق تَاءِ التأنيث لفعلها، تقول: غَزَتْ العربُ، وغَزَى العربُ. وظلم النفس أن يفعل أحد فِعلا يؤول إلى مضرّته، فهو ظالم لنفسه، لأنّه فعل بنفسه ما ليس من شأن العقلاء أن يفعلوه لوخامة عقباه. والظلم هو الشيء الذي لا يحقّ فعله ولا تَرضى به النفوس السليمة والشرائعُ، واشتهر إطلاق ظلم النفس في القرآن على الكفر وعلى المعصية. وقد اختُلف في المراد به في هذه الآية، فقال ابن عباس: المراد به الكفر، وأنّها نزلت في قوم من أهل مكة كانوا قد أسلموا حين كان الرسول صلى الله عليه وسلم بمكة، فلمّا هاجر أقاموا مع قومهم بمكة ففتنوهم فارتدّوا، وخرجوا يوم بدر مع المشركين فكثَّروا سواد المشركين، فقُتلوا ببدر كافرين، فقال المسلمون: كان أصحابنا هؤلاء مسلمين ولكنّهم أكرهوا على الكفر والخروج، فنزلت هذه الآية فيهم. رواه البخاري عن ابن عباس، قالوا: وكان منهم أبو قيس بن الفاكِه، والحارث بن زمْعة، وأبو قيس بن الوليد بن المغيرة، وعلي بن أمية بن خلف، والعاص بن منبه بن الحجاج؛ فهؤلاء قتلوا. وكان العباس بن عبد المطلب، وعَقيلٌ ونوفلٌ ابنا أبي طالب فيمن خرج معهم، ولكن هؤلاء الثلاثة أسِروا وفَدَوْا أنفسهم وأسلموا بعد ذلك، وهذا أصحّ الأقوال في هذه الأية. وقيل: أريد بالظلم عدم الهجرة إذ كان قوم من أهل مكة أسلموا وتقاعسوا عن الهجرة. قال السديّ: كان من أسلم ولم يهاجر يعتبر كافراً حتّى يهاجر، يعني ولو أظهر إسلامه وترك حال الشرك. وقال غيره: بل كانت الهجرة واجبة ولا يكفّر تاركها. فعلى قول السدّي فالظلم مراد به أيضاً الكفر لأنّه معتبر من الكفر في نظر الشرع، أي أنّ الشرع لم يكتف بالإيمان إذا لم يهاجر صاحبه مع التمكّن من ذلك، وهذا بعيد فقد قال تعالى: {والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتّى يهاجروا وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر} [الأنفال: 72] الآية؛ فأوجب على المسلمين نصرهم في الدين إن استنصروهم، وهذه حالة تخالف حالة الكفّار. وعلى قول غيره: فالظلم المعصية العظيمة، والوعيد الذي في هذه الآية صالح للأمرين، على أنّ المسلمين لم يعُدّوا الذين لم يهاجروا قبل فتح مكة في عداد الصحابة. قال ابن عطية: لأنّهم لم يتعيّن الذين ماتوا منهم على الإسلام والذين ماتوا على الكفر فلم يعتدّوا بما عرفوا منهم قبل هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وجملة: {قالوا فيمَ كنتم} خبر (إنّ). والمعنى: قالوا لهم قول توبيخ وتهديد بالوعيد وتمهيد لدحض معذرتهم في قولهم: {كنّا مسْتضعفين في الأرض}، فقالوا لهم {ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها}. ويجوز أن يكون جملة: {قالوا فيم كنتم} موضع بدل الاشتمال من جملة {توفّاهم}، فإنّ توفّي الملائكة إيّاهم المحكي هنا يشتمل على قولهم لهم {فيم كنتم}. وأمّا جملة {قالوا كنّا مستضعفين في الأرض} فهي مفصولة عن العاطف جرياً على طريقة المقاولة في المحاورة، على ما بيّناه عند قوله تعالى: {قالوا أتجْعل فيها من يفسد فيها في سورة البقرة. وكذلك جملة: قالوا ألم تكن أرض الله واسعة}. ويكون خبر (إنّ) قوله: {فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيراً} على أن يكون دخول الفاء في الخبر لكون اسم إنّ موصولاً فإنّه يعامل معاملة أسماء الشروط كثيراً، وقد تقدّمت نظائره. والإتيان بالفاء هنا أولى لطول الفصل بين اسم (إنّ) وخبرها بالمقاولة، بحيث صار الخبر كالنتيجة لتلك المقاولة كما يدلّ عليه أيضاً اسم الإشارة. والاستفهام في قوله: {فيم كنتم} مستعْمل للتقرير والتوبيخ. و (في) للظرفية المجازية. و(ما) استفهام عن حالة كما دلّ عليه (في). وقد علم المسؤول أنّ الحالة المسؤولون أنّ الحالة المسؤول عنها حالة بقائهم على الكفر أو عدم الهجرة. فقالوا معتذرين {كنّا مستضعفين في الأرض}. والمستضعف: المعدود ضعيفاً فلا يعبأ بما يصنع به فليس هو في عزّة تُمَكِّنه من إظهار إسلامه، فلذلك يضطّر إلى كتمان إسلامه. والأرض هي مكة. أرادوا: كنّا مكرهين على الكفر ما أقمنا في مكة، وهذا جواب صادق إذ لا مطمع في الكذب في عالم الحقيقة وقد حسبوا ذلك عذراً يبيح البقاء على الشرك، أو يبيح التخلّف عن الهجرة، على اختلاف التفسيرين، فلذلك ردّ الملائكة عليهم بقولهم: {ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها}، أي تخرجوا من الأرض التي تستضعفون فيها، فبذلك تظهرون الإيمان، أو فقد اتّسعت الأرض فلا تعدمون أرضاً تستطيعون الإقامة فيها. وظاهر الآية أنّ الخروج إلى كلّ بلد غير بلد الفتنة يعدّ هجرة، لكن دلّ قوله: {مهاجراً إلى الله ورسوله} [النساء: 100] أنّ المقصود الهجرة إلى المدينة وهي التي كانت واجبة، وأمّا هجرة المؤمنين إلى الحبشة فقد كانت قبل وجوب الهجرة؛ لأنّ النبي وفريقاً من المؤمنين، كانوا بعدُ بمكة، وكانت بإذن النبي صلى الله عليه وسلم وهذا ردّ مفحم لهم. والمهاجرة: الخروج من الوطن وترك القوم، مفاعلةٌ من هَجَر إذا ترك، وإنّما اشتقّ للخروج عن الوطن اسم المهاجرة لأنها في الغالب تكون عن كراهية بين الراحل والمقيمين، فكلّ فريق يطلب ترك الآخر، ثم شاع إطلاقها على مفارقة الوطن بدون هذا القيد. والفاء في قوله: {فأولئك مأواهم جهنّم} [النساء: 97] تفريع على ما حكى من توبيخ الملائكة إيّاهم وتهديدهم. وجيء باسم الإشارة في قوله: {فأولئك مأواهم جهنم} للتنبيه على أنّهم أحرياء بالحكم الوارد بعد اسم الإشارة من أجْل الصفات المذكورة قبله، لأنّهم كانوا قادرين على التخلّص من فتنة الشرك بالخروج من أرضه. وقوله: {إلاّ المستضعفين} استثناء من الوعيد، والمعنى إلاّ المستضعفين حقّاً، أي العاجزين عن الخروج من مكة لقلّة جهد، أو لإكراه المشركين إيّاهم وإيثاقهم على البقاء: مثل عيّاش بن أبي ربيعة المتقدّم خبره في قوله تعالى: {وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمناً إلاّ خطئاً} [النساء: 92]، ومثل سلمة بن هشام، والوليد بن الوليد. وفي «البخاري» أنّ رسول الله كان يدعو في صلاة العشاء: «اللهمّ نجّ عيّاش بن أبي ربيعة اللهمّ نجّ الوليد بن الوليد، اللهمّ نجّ سلمة بن هشام اللهمّ نجّ المستضعفين من المؤمنين». وعن ابن عباس: كنتُ أنا وأميّ من المستضعفين. والتبيين بقوله: {من الرجال والنساء والولدان} لقصد التعميم. والمقصد التنبيه على أنّ من الرجال مستضعفين، فلذلك ابتدئ بذكرهم ثم ألحق بذكرهم النساء والصبيان لأنّ وجودهم في العائلة يكون عذراً لوليّهم إذا كان لا يجد حيلة. وتقدّم ذكرهم بقوله تعالى: {وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان} [النساء: 75]، وإعادة ذكرهم هنا ممّا يؤكّد أن تكون الآيات كلّها نزلت في التهيئة لفتح مكة. وجملة: {لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلاً} حال من المستضعفينَ موضّحة للاستضعاف ليظهر أنّه غير الاستضعاف الذي يقوله الذين ظلموا أنفسهم {كُنَا مستضعفين في الأرض}، أي لا يستطيعون حيلة في الخروج إمّا لمنع أهل مكة إيّاهم، أو لفقرهم: {ولا يهتدون سبيلاً} أي معرفة للطريق كالأعمى. وجملة {فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم} الفاء فيها للفصيحة، والإتيان بالإشارة للتنبيه على أنّهم جديرون بالحكم المذكور من المغفرة. وفعل {عسى} في قوله: {فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم} يقتضي أنّ الله يرجو أن يعفو عنهم، وإذْ كان الله هو فاعل العفو وهو عالم بأنّه يعفو عنهم أو عن بعضهم بالتعيين تعيّن أن يكون معنى الرجاء المستفاد من {عسى} هنا معنى مجازياً بأنّ عفوه عن ذنبهم عفوٌ عزيز المنال، فمُثِّل حال العفو عنهم بحال من لا يُقطع بحصول العفو عنه، والمقصود من ذلك تضييق تحقق عذرهم، لئلاّ يتساهلوا في شروطه اعتماداً على عفو الله، فإنّ عذر الله لهم باستضعافهم رخصة وتوسعة من الله تعالى، لأنّ البقاء على إظهار الشرك أمر عظيم، وكان الواجب العزيمةُ أن يكلّفوا بإعلان الإيمان بين ظهراني المشركين ولو جلب لهم التعذيب والهلاك، كما فعلت سُمَيَّة أمُّ عمّارٍ بن ياسر. وهذا الاستعمال هو محمل موارد {عسى} و(لعلّ) إذا أسندا إلى اسم الله تعالى كما تقدّم عند قوله تعالى: {وإذْ آتينا موسى الكتاب والفرقان لعلّكم تهتدون} في سورة البقرة (53)، وهو معنى قول أبي عبيدة: «عسى من الله إيجاب» وقول كثير من العلماء: أنّ عسى ولعلّ في القرآن لليقين، ومرادهم إذا أسند إلى الله تعالى بخلاف نحو قوله: {وقل عَسَى أن يهديني ربّي لأقرب من هذا رشداً} [الكهف: 24]. ومثل هذا ما قالوه في وقوع حرَف (إنْ) الشرطية في كلام الله تعالى، مع أنّ أصلها أن تكون للشرط المشكوك في حصوله. وقد اتّفق العلماء على أنّ حكم هذه الآية انقضى يوم فتح مكة لأنّ الهجرة كانت واجبةً لمفارقة أهل الشرك وأعداء الدين، وللتمكّن من عبادة الله دون حائل يحول عن ذلك، فلمّا صارت مكة دار إسلام ساوت غيرها، ويؤيّده حديث: " لا هجرة بعد الفتح ولكنْ جِهَادٌ ونيَّة " فكان المؤمنون يبقون في أوطانهم إلاّ المهاجرين يحرم عليهم الرجوع إلى مكة. وفي الحديث: " أللهمّ أمْضضِ لأصحابي هجرتهم ولا تَرُدُّهْم على أعقابهم " قاله بعدَ أن فتحت مكة. غير أنّ القياس على حكم هذه الآية يفتح للمجتهدين نظراً في أحكام وجوب الخروج من البلد الذي يفتن فيه المؤمن في دينه، وهذه أحكام يجمعها ستّة أحوال: الحالة الأولى: أن يكون المؤمن ببلد يُفتن فيه في إيمانه فيُرغَم على الكفر وهو يستطيع الخروج، فهذا حكمَه حكم الذين نزلت فيهم الآية، وقد هاجر مسلمون من الأندلس حين أكرههم النصارى على التنصرّ، فخرجوا على وجوههم في كلّ واد تاركين أموالهم وديارهم ناجين بأنفسهم وإيمانِهم، وهلك فريق منهم في الطريق وذلك في سنة 902 وما بعدها إلى أن كان الجلاء الأخير سنة 1016. الحالة الثانية: أن يكون ببلدِ الكفر غيرَ مفتون في إيمانه ولكن يكون عرضة للإصابة في نفسه أو ماله بأسر أو قتل أو مصادرة مال، فهذا قد عرض نفسه للضرّ وهو حرام بلا نزاع، وهذا مسمَّى الإقامةِ ببلد الحرب المفسّرة بأرض العدوّ. الحالة الثالثة: أن يكون ببلد غلب عليه غير المسلمين إلاّ أنّهم لم يفتِنوا الناسَ في إيمانهم ولا في عباداتهم ولا في أنفسهم وأموالهم وأعراضهم، ولكنّه بإقامته تجري عليه أحكام غير المسلمين إذا عرض له حادث مع واحد من أهل ذلك البلد الذين هم غير مسلمين، وهذا مثل الذي يقيم اليوم ببلاد أوروبا النصرانية، وظاهر قول مالك أنّ المقام في مثل ذلك مكسروه كراهة شديدة من أجل أنّه تجري عليه أحكام غير المسلمين، وهو ظاهر المدوّنة في كتاب التجارة إلى أرض الحرب والعتبية، كذلك تأوّل قولَ مالك فقهاء القيروان، وهو ظاهر الرسالة، وصريح كلام اللخمي في طالعة كتاب التجارة إلى أرض الحرب من تبصرته، وارتضاه ابن محرز وعبد الحقّ، وتأوّله سحنون وابن حبيب على الحرمة وكذلك عبد الحميد الصائغ والمازري، وزاد سحنون فقال: إنّ مقامه جرحة في عدالته، ووافقه المازري وعبد الحميد، وعلى هذا يجري الكلام في السفر في سفن النصارى إلى الحجّ وغيره. وقال البرزلي عن ابن عرفة: إن كان أمير تونس قويّاً على النصارى جاز السفر، وإلاّ لم يجز، لأنّهم يهينون المسلمين. الحالة الرابعة: أن يتغلّب الكفّار على بلدٍ أهلُه مسلمون ولا يفتنوهم في دينهم ولا في عبادتهم ولا في أموالهم، ولكنّهم يكون لهم حكم القوة عليهم فقط، وتجري الأحكام بينهم على مقتضى شريعة الإسلام كما وقع في صقلية حين استولى عليها رجير النرمندي. وكما وقع في بلاد غرناطة حين استولى عليها طاغية الجلالقة على شروط منها احترام دينهم، فإنّ أهلها أقاموا بها مدّة وأقام منهم علماؤهم وكانوا يلون القضاء والفتوى والعدالة والأمانة ونحو ذلك، وهاجر فريق منهم فلم يَعِب المهاجر على القاطن، ولا القاطنُ على المهاجر. الحالة الخامسة: أن يكون لغير المسلمين نفوذ وسلطان على بعض بلاد الإسلام، مع بقاء ملوك الإسلام فيها، واستمرار تصرّفهم في قومهم، وولاية حُكَّامهم منهم، واحترام أديانهم وسائر شعائرهم، ولكنّ تصرف الأمراء تحت نظر غير المسلمين وبموافقتهم، وهو ما يسمّى بالحماية والاحتلال والوصاية والانتداب، كما وقع في مصر مدّة احتلال جيش الفرنسيس بها، ثم مدّة احتلال الأنقليز، وكما وقع بتونس والمغرب الأقصى من حماية فرانسا، وكما وقع في سوريا والعراق أيّام الانتدَاب وهذه لا شبهة في عدم وجوب الهجرة منها. الحالة السادسة: البلد الذي تكثر فيه المناكر والبدع، وتجري فيه أحكام كثيرة على خلاف صريح الإسلام بحيث يخلِط عملاً صالحاً وآخرَ سَيّئاً ولا يجبر المسلم فيها على ارتكابه خلاف الشرع، ولكنه لا يستطيع تغييرها إلاّ بالقول، أو لا يستطيع ذلك أصلاً وهذه رُوي عن مالك وجوب الخروج منها، رواه ابن القاسم، غير أنّ ذلك قد حدث في القيروان أيّام بني عبيد فلم يُحفظ أنّ أحداً من فقهائها الصالحين دعا الناس إلى الهجرة. وحسبك بإقامة الشيخ أبي محمد بن أبي زيد وأمثاله. وحدث في مصر مدّة الفاطميين أيضاً فلم يغادرها أحد من علمائها الصالحين. ودون هذه الأحوال الستّة أحوال كثيرة هي أولى بجواز الإقامة، وأنّها مراتب، وإنّ لبقاء المسلمين في أوطانهم إذا لم يفتنوا في دينهم مصلحة كبرى للجامعة الإسلامية.
{وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (100)} جملة {ومن يهاجر} عطف على جملة {إنّ الذين توفّاهم الملائكة} [النساء: 97]، و(مَن) شرطية. والمهاجرة في سبيل الله هي المهاجرة لأجل دين الله. والسبيل استعارة معروفة، وزادها قبولاً هنا أنّ المهاجرة نوع من السير، فكان لذكر السبيل معها ضرب من التورية. والمراغم اسم مكان من راغم إذا ذهب في الأرض، وفعل راغم مشتقّ من الرّغام بفتح الراء وهو التراب. أو هو من راغم غيره إذا غلبه وقهره، ولعلّ أصله أنّه أبقاه على الرغام، أي التراب، أي يجِد مكاناً يُرْغم فيه من أرغمه، أي يَغلب فيه قومه باستقلاله عنهم كما أرغموه بإكراهه على الكفر، قال الحارث بن وعلة الذهلي: لا تأمنَنْ قوماً ظلمتهم *** وبدأتهم بالشتم والرغم إن يأبِرُوا نَخْلاً لغيرهم *** والشيءُ تحقره وقد ينمي أي أن يكونوا عوْناً للعدوّ على قومهم. ووصفُ المراغم بالكثير لأنّه أريد به جنس الأمكنة. والسعة ضد الضيق، وهي حقيقةً اتّساعُ الأمكنة، وتطلق على رفاهية العيش، فهي سعة مجازية. فإن كان المراغم هو الذهاب في الأرض فعطف السعة عليه عطف تفسير، وإن كان هو مكان الإغاضة فعطف السعة للدلالة على أنّه يجده ملائماً من جهة أرضاء النفس، ومن جهة راحة الإقامة. ثم نوّه الله بشأن الهجرة بأن جعل ثوابها حاصلاً بمجرّد من بلد الكفر، ولو لم يبلغ إلى البلد المهاجَر إليه. بقوله: {ومن يخرج من بيته مهاجراً إلى الله ورسوله} الخ. ومعنى المهاجرة إلى الله المهاجرة إلى الموضع الذي يرضاه الله. وعطف الرسول على اسم الجلالة للإشارة إلى خصوص الهجرة إلى المدينة للإلتحاق بالرسول وتعزيز جانبه، لأنّ الذي يهاجر إلى غير المدينة قد سلم من إرهاق الكفر ولم يحصّل على نصرة الرسول، ولذلك بادر أهل هجرة الحبشة إلى اللحاق بالرسول حين بلغهم مهاجَرهُ إلى المدينة. ومعنى {يدركه الموت}، أي في الطريق، ويجوز أن يكون المعنى: ثم يدركه الموت مهاجراً، أي لا يرجع بعد هجرته إلى بلاد الكفر وهو الأصحّ، وقد اختلف في الهجرة المرادة من هذه الآية: فقيل: الهجرة إلى المدينة، وقيل: الهجرة إلى الحبشة. واختلف في المعني بالموصول من قوله: {ومن يخرج من بيته مهاجراً إلى الله ورسوله}. فعند من قالوا إنّ المراد الهجرة إلى المدينة قالوا المراد بمن يخرج رجل من المسلمين كان بقي بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، فلمّا نزل قوله تعالى: {إنّ الذين توفّاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم إلى قوله: وكان الله غفوراً رحيماً} [النساء: 97 100] كتب بها النبي صلى الله عليه وسلم إلى المسلمين من أهل مكة، وكان هذا الرجل مريضاً، فقال: إني لَذو مال وعبيد، فدعا أبناءَه وقال لهم: احملوني إلى المدينة. فحملوه على سرير، فلمّا بلغ التنعيم توفّي، فنزلت هذه الآية فيه، وتعمّ أمثاله، فهي عامّة في سياق الشرط لا يخصّصها سبب النزول. وكان هذا الرجل من كنانة، وقيل من خزاعة، وقيل من جُنْدَع، واختلف في اسمه على عشرة أقوال: جندب بن حمزة الجندعي، حندج بن ضمرة الليثي الخزاعي. ضمرة بن بغيض الليثي، ضمرة بن جندب الضمْري، ضمرة بن جندب الضمْري، ضمرة بن ضمرة بن نعيم. ضمرة من خزاعة (كذا). ضمرة بن العيص. العيص بن ضمرة بن زنباع، حبيب بن ضمرة، أكثم بن صيفي. والذين قالوا: إنّها الهجرة إلى الحبشة قالوا: إنّ المعنيّ بمن يخرج من بيته خالد بن حزام بن خويلد الأسدي ابن أخي خديجة أمّ المؤمنين، خرج مهاجراً إلى الحبشة فنهشته حيّة في الطريق فمات. وسياق الشرط يأبى هذا التفسير.
|